مدهب سارتر
الخيال في المذهب الفلسفي الوجودي عند ( سارتر )
محمد راسم الشيخ عطية
الاربعاء29/9/2010
ــ فلسفة البحث في ظواهر الوجود الإنساني :
ــ ابتداء ًمن العقد الخامس من القرن العشرين ، ظهر الفكر الوجودي في الفلسفة بزعامة ( سارتر ) و( هيدجر ) ، حيث كانت فلسفة ( برجسون ) و ( كروتشة ) أو ما يسمى بالفلسفة الحدسية هي الفلسفة السائدة في العقود التي سبقت ظهور الفلسفة الوجودية في الفكر المعاصر .
وكان لظهور الفلسفة الوجودية أثرا ً كبيرا ًفي توجيه الفكر الفلسفي ، وخاصة فلسفة الجمال واعتماد منهج ( الفينومينولوجيا ) أساسا ً، والذي يستبعد افتراض الحقائق في ذاتها ، ويقتصر على البحث في الأشياء كما تبدو لنا ، واعتبار المركبات ( كالإدراك والذاكرة والرموز والخيال .... ) ، وهي كما نعلم مركبات الشعور ، كما نجدها في الوعي الإنساني مباشرة ً مع عدم الإجابة على السؤال فيما إذا كان للأشياء أو للوعي وجود معيـَّن ، بل نعتبر هذه ( الماهيَّات ) أشياء في الوعي أو وعي في الأشيـاء ، وبمـا أن الوعـي لا وجـود له بشـكل مستقل في ذاتـه ، بـل هو متعـلق دائمـا ًوأبداً بموضـوع معيـَّن .
وانطلاقا ًمن هذه النقطة فقد تجاوزت فلسفة الوجود ( الميتا فيزيقا ) وراحت تغرق بين الموجودات وبين الوعي ، وأصبحت المسألة الرئيسية في الفلسفة الوجودية هي البحث في ظواهر الوجود ، كما تبدو في الذات الإنسانية .
ــ الفن أحد مظاهر الوجود الإنساني تكتسب فيه الأشياء معانيها :
ــ بعد مرور فترة من الزمن على الفكر الوجودي ، إذ وقع الخلاف بين أتباع وشخصيات هذا الفكر وأخذت تتنوع نظرياتهم ومذاهبهم ومواقفهم من الوجود والحياة .
لكن الذي لا يخلو منه أي اتجاه أو مذهب من مذاهبهم هو اتفاقهم على مبدأ واحد وهو قولهم : (( إن الإنسان لا يمكنه الوجود بغير رؤية فلسفية أي كانت هذه الرؤية ، فقد يجدها عند الروائي أو الشاعر أو رجل الدين أو الفنان )) .
لذلك نجـد أن معظـم الفلاسـفة الوجوديـون قد اتجهوا نحـو الفن لأنه يصف مظهرا ًمن مظاهر الوجود الإنساني ، إنه يقدم حالة وجودية لا فكرا ً تعقليا ً ، ولأن الوجود عندهم جميعا ًليس فكرة عامة مجردة ولكنه فعل مبدئي تترتب عليه أفعال وعمليات أخرى كثيرة ، ويمكن على أساسه أن تكتسب الأشياء معانيها ، لذلك فقد تميـَّزت كل المذاهب الوجودية في تأكيدها لأهمية الوجود الفردي وأسبقيته على التطورات المجردة .
ــ الحرية قوام الوجود الإنساني - والإنسان كائن محكوم عليه بالحرية :
ــ إن الإنسان عند سارتر يثبت وجوده عن طريق الفعل ، فالفعل هو محاولة الإنسان لتغيير حالة راهنة أو وضع راهن إلى حالة أخرى مغايرة أو إلغاء شيء وإثبات شيء آخر يحل محله ، وليس أي سلوك يسلكه الإنسان يعتبر (( فعلا ً )) لأن الفعل هو القدرة على التغيير ، تغيير أوضاع تـؤثر في عالم الموجودات ، وهذا الفعل قد يضيق ليكون كتحية عابرة أو قد يتسع ليكون قتل أهل مدينة بكاملها وسارتر لا يعطي قيمة للفعل بما يترتب عليه من نتائج ، إنما المهم أن يصدر هذا الفعل عن حريتنا وعن إرادتنا .
ــ إن الفعل الإنساني يفترض الحرية ويعبر عنها ، إذ يقول سارتر بهذا الخصوص :
(( إن الحرية ليست مجرد صفة للوجود الإنساني بل هي قوام هذا الوجود ))
وقد يحاول الإنسان أن يهرب من حريته وقد يحاول أيضا ًأن ينكر ذاته ويرفض أنه موجود ، ويسعى لإيهـام نفسـه بأنـه موضوع وشيء كباقي الأشياء ، ولكن مثل هذا الشعور يسميه سارتر ( خداع النفس ) .
ــ ويذهب سارتر إلى أكثر من هذا لإثبات أن الحرية هي حرية الذات الإنسانية فيقول : (( إن الإنسان حتى في حالة عدم وعيه بحريته وتخليه عن إرادته فإنما يكون حرا ً، وذلك لأنه قد اختار عدم الاختيار ، إنه الكائن المحكوم عليه بالحرية وهو لا يستطيع أن يهرب من حريته )) .
ــ فنلاحظ من كل ما سبق أن مفهوم الحرية قد اتسع عند سارتر ليشمل الشعور والعواطف إضافة إلى الفكر والوعـي .
ــ ارتباط الأدب والنقد الأدبي بالفلسفة وعلم الجمال:
ــ لايوجد أي فعل من الأفعال أفضل من غيره إلا بمقدار صدوره عن حرية فاعلة ، وليس هناك أسوأ من حالة التخلي عن الذات أو عن الحرية وقبول الإنسان بما يعطى إليه بشكل جاهز .
ــ نلاحظ مما سبق أن المذهب الوجودي لا يسود فقط في فلسفة هذا القرن فحسب ، إنما يمتد ليشمل الأدب والنقد الأدبي ، ويعتبر سارتر على رأس قائمة نقاد الأدب الذين ساهموا في تحديد مهمة الأدب ودوره في التأثير على حرية الأفراد ، ومما لا شك فيه أن آراء سارتر في الأدب والنقد الأدبي هي آراء غير مستقلة عن نظرياته في الفلسفة وعلم الجمال .
ــ الخيال يقدم لنا عالما ًبديلا ًمن عالم الواقع إنه عالم الحرية:
ــ لقد كان محور فلسفة سارتر في الوعي هي رفضه ما قد ذهبت إليه الفلسفة التقليدية ( الفلسفة التي سبقت الوجودية ) في قولها بوجود الذات كتركيب سابق على الوعي ، وبما أن الوعي عند سارتر لا يثبت ولا يستقر على حال واحدة ، وأن أقرب شيء يشير إليه هو ذلك الوجود الذي يتجاوز ثبات الواقع وجموده ، إنه وجود المتخيل ، فتعلق الوعي بالمتخيل يمثل حجر الزاوية في فلسفة سارتر الجمالية .
ــ في الواقع إن اهتمام سارتر بحياة الخيال عند الإنسان ، إنما يرجع إلى أن الخيال حين يباعد بين الإنسان وعالم الواقع ، إنما يكشف عن عالم آخر تتمثل فيه الحرية بأكمل درجاتها ، فوظيفة الخيال عند الإنسان تتلخص في أنه يقدم لنا عالم آخر سيكون بديلا ًللعالم الواقعي ، لذلك يرى سارتر في الخيال قدرة على نفي الواقع وهي القدرة الأساسية التي يتميز بها الوعي عند الإنسان.
ــ الخيال هو علاقة الوعي بموضوع يقع خارجه :
ــ لقد رفض سارتر نظرية ( دافيد هيوم ) في علم النفس والتي تفترض وجود الصورة المتخيلة في الدماغ وأنها تستقر في الوعي ، وقد أطلق عليها اسم (( وهم التضمن )) ، وقد عـَّرف الخيال فقال : (( إن الخيال ليس إلا علاقة الوعي بشيء أو بموضوع يقع خارجه )) .
ــ إن أول أوجه الخلاف بين الإدراك والخيال عند سارتر لا يرجع إلى وجود صورة خيالية في الوعي أو عدم وجودها ، بل يتلخص الفرق في الطريقة التي يتعلق بها الوعي بموضوعاته المختلفة أي في الفعل الذي يقوم به الوعي بالنسبة لموضوع خارجي .
وأن ثاني أوجه الخلاف بين الإدراك والخيال يرجع إلى الطريقة التي ننظر بها إلى مواضيع كل منها ففي الإدراك نعتمد على الملاحظة ، أما في الخيال فنعتمد على ما يشبه الملاحظة .
وأن ثالث أوجه الخلاف هو أن فعل الإدراك يستدعي استمرار الملاحظة بحيث يمكننا أن نمضي في الملاحظة بإضافة لقطات للنظر من زوايا مختلفة ، في حين أن عمليات الخيال فإننا لا نستطيع إضافة أي شيء عن طريق الملاحظة .
ــ الخيال يسلب موضوعه حالة الوجود ويضعه في حالة العدم:
ــ إن محاولة تفسير الخيال تتطلب فعل انعكاس من الوعي لا يقع على الشيء الخارجي ، بقدر ما يقع على الطريقة التي يعمل بها الوعي عند التخيل ، فالوعي يقوم بعمليات مختلفة يتناول بها الموضوعات الخارجية ، فهو يدرك ? يتصور ? يتخيـَّـل ، بهذه الطرق المختلفة يمكن للوعي أن يتناولها .
وأن أهم خصائص الخيال عند سارتر هي أنه بدلا ًمن أن يضفي الوجود على موضوعه كما هي الحال في عملية الإدراك ، فإنه يسلب موضوعه حالة الوجود ويضعه في حال العدم ، مهما كانت الصورة الخيالية تفيض بالحيوية والوضوح .
إذ أنه يفترض عدم وجوده الواقعي ، وهنا يوَّحد سارتر بين الخيال وبين وظيفة النفي أو السلب وهي الوظيفة التي تميِّـز الوعي الإنساني ، وأن أهم صفات الوعي عند سارتر هي القدرة على السلب .
وأن الوعي حين يقوم بعمليات الخيال فإنه يتعامل مع عالم بديل مختلف كليا ًعن عالم الموجودات في الواقع .
ــ يتميَّـز الوعي بالتلقائية الخلاقة وإنتاج موضوعات جديدة:
ــ يصف سارتر الوعي بالتلقائية الخلاقة ، أي أنه ينطوي على قدرة في إنتاج موضوعات جديدة وأن الخيال هو الوعي الإيجابي الخلاق ، وهنا يظهر اختلاف الوعي عن الإدراك الذي يتلقى موضوعاتـه
دون أن يبدعها .
ويُدخل سارتر في تحليله للخيال تفسيرات يحاول فيها التمييز بين الصور الخيالية التي يكون مصدرها أشياء مادية ملموسة ، وبين الصور الخيالية التي يكون مصدرها مشاعر النفس وأحاسيسها لأن الموضوع المتخيـَّـل يستخدم باستمرار ما يسميه سارتر ( مماثلات ) وهي تلك الأشياء المادية المحسوسة التي تنبه خيالنا وتثيره ، ولهذه الـفكــرة دورا ًكبيرا ًفي تفسـير الأعمال الفنية .
ــ العمل الفني هو شيء لا واقعي إنه موضوع جمالي في متناول الوعي :
ــ نستطيع أن نستخلص بعض النتائج من الدراسات المعتمدة والملاحظات التي تتعلق أساسا ًبالمركز الوجودي للعمل الفني ، ويمكننا أن نصوغ الملاحظة الرئيسية التالية - يقول سارتر :
(( إن العمل الفني هو شيء لا واقعي ولن يكون سوى موضوع جمالي يظهر في متناول وعينا ، في اللحظة التي يقوم فيها الوعي بلفتة أساسية أي حين يدخل العدم ويتحول إلى وعي خيالي )) .
ونصل إلى نتيجة بأن الموضوع الاستطيقي الجمالي في أي عمل فني هو دائما ًشيء لا واقعي ، وهنا يجب التفرقة الهامة بين الجانب الواقعي والجانب الخيالي في العمل الفني ، فعندما ينفذ الفنان فكرة ما كعمل فني ، صورة خيالية خاصة به ، فيكون بذلك قد انتقل هذا الفنان من الواقعي إلى الخيالي فالجميل إذا ًهو ذلك الكائن الغير قابل للإدراك ، إنه في صميم طبيعته مفارق للعالم .
ــ لا يوجد تحقق واقعي لما هو خيالي إنما تموضع له :
ــ الواقع أن الفنان لا يحقق صورة نعقلها إنما يقدم لنا (( مماثلا ًماديا ً )) يمكن لكل من أراد أن يدركه بمجرد أن ينظر إليه ، أما الصورة الخيالية فتظل رغم تحقق المماثل المادي لها ، تطوف على المستو الخيالي ، إذ لا يوجد تحقق واقعي لما هو خيالي إنما تموضع له .
وكل عمل فني هو عمل ليس مقصود لذاته ، ولا من أجل الكائن الواقعي ، بل يقصد به إلى مركب لا واقعي يظهره الفنان من خلال هذه العناصر الواقعية .
إن اللذة الجمالية هي شيء واقعي وهي طريقة لفهم موضوع لا واقعي ، إذ أنها تهيب بالموضوع الخيالي من خلال نسيج الواقع ، وهنا نلاحظ تجرد النظرة الاستطيقية ، الجمالية من كل غرض وهو ما يفسر لنا قول الفيلسوف ( كانط ) عندما قال : (( ليس من المهم أن يكون الموضوع الجميل حين نحس بجماله موجودا ًفي الواقع أم غير موجود فيه )) .
ــ اتخاذ موقف استطيقي تجاه الحياة هو خلط الواقع في الخيال :
ــ من خلال كل هذه الملاحظات والأقوال يمكن أن ننتهي إلى القول بأن الواقعي ليس أبدا ًسيكون شيئاً جميلا ً، والجمال قيمة مطلقة لا تنطبق إلا على الخيالي ، وهو يضفي العدم على العالم في تركيبه الأساسي .
وإنه من الغباء بمكان الخلط بين الأخلاق والاستطيقا ، وذلك لأن قيم الخير تفترض الوجود في العالم وهي تتعلق بالسلوك الواقعي وتخضع لجوهر الوجود ، أما اتخاذ موقف استطيقي تجاه الحياة فهذا يعني خلط الواقع في الخيال .
وقد يحدث أن نتخذ موقف التأمل الاستطيقي عندما نواجه أحداثا ً أو موضوعات واقعية ، ولكن في هذه الحالات ينزلق موضوع التأمل إلى العدم ، وفي هذه اللحظة لا يصبح الشيء موضوعا ًللإدراك بل سيكون مجرد ( مماثلا ًماديا ًلذاته ) .
وأن الصور الخيالية اللاواقعية تنكشف لنا من خلال ما يظهر لنا في الواقع ، فالموضوع الواقعي يمكن أن يتحول إلى صورة خيالية ولكن بعد أن يصبح محاديا ً أو منفيا ً .
يعتبر كتاب سارتر (( الخيالي )) مدخلا ً إلى فلسفته في الوجود والعدم وحرية الإنسان وقدرته على إدراك الأشياء على ما هي عليه وعلى ما ليست هي عليه .